الجزائر : قصة حب تنتهي بجريمة قتل

أطلت الشمس مضيئة ظلام ليل شتوي بارد، وفتح الناس متاجرهم، ودبت حركة هادئة باتجاه أماكن العمل والمدارس، كان الناس في ذلك اليوم أشبه بالصرعى، كل يضع يده في جيبه ساكتا ويتأبط جريدة أو حقيبة أو أوراقا، ودون ضجيج دخل عدد من الناس إلى المحكمة عبر بوابتها الرئيسية، وتجمّع عدد قليل أمام بوابة قاعة كبيرة، ينتظرون قدوم القاضي والمحلفين.
دقّ الجرس ودخل القاضي وممثل النيابة القاعة من باب خلفي، نهض الجميع احتراما، ثم جلسوا، وما هي إلا لحظات قليلة حتى جيء بشاب في الثلاثين من العمر، بدا حزينا يائسا يرافقه شرطي، أجلسه على كرسي بدفة المتهمين، وبقي يحرسه، وأعلن القاضي أن جلسة اليوم تتضمن النظر في جريمة قتل “بطلها” زوج أزهق روح زوجته، وبدأت المحاكمة في هدوء وسكون ظاهر.
المشهد الأول.. التعارف 
كان العام يشير في عداده مرور 2007 عاما من تاريخ الميلاد، شاءت الصدف أن يتعرف الزوج المتهم في مساء جميل بالعاصمة الجزائر على فتاة في العشرينات من العمر.. أعجب بها وأبدى لها حسن نيته وطلب منها رقم هاتفها، وشعر بعاطفة تشده نحوها.. مرت الأيام وتوطدت العلاقة بينهما، ولم يفوت الفرصة وهو المطلق، فتقدم من عائلتها بطلب الزواج منها.. كان الأمر في البداية مرفوضا وصعبا قبوله من كلا العائلتين، لكن إصرارهما رجح الكفة لصالحهما، وزفت إليه وهو النشوان الفرحان.. كان العريس تاجرا ميسور الحال، استأجر لعروسه مسكنا بالضواحي، وعاشا سعيدين أياما حلوة وكأنهما شخصيات من قصص كتب الحب والمغامرات العاطفية.
وفي شهر جوان من العام 2009 رزقا بأول مولود، وتنقلا للعيش لدى عائلتها بعد موافقته مكرها، وتلت السنة الأخرى، وكانت حياتهما شبه مستقرة، إلى أن رزقا بمولود ثان في العام 2012. لم تمر على المولود إلا مدة قصيرة، حتى تعكّر الجو بينهما، وباتت تطفو على حياتهما الخلافات، انتهت في واحدة من المرات بطلب الزوجة الضحية “الخلع”، لكن سرعان ما عاد السلم بينهما، واتفقا على استئجار مسكن بالجوار، حتى ينعما بالاستقلالية والخصوصية والهدوء. لكن ذلك كان مستحيلا، وتأزمت العشرة بينهما من جديد.
المشهد الثاني.. الشكوك
لم تكن أيام المولود الجديد بالمفرحة، وتعقدت مع مرور الوقت العلاقة الزوجين، وأصبح الزوج معكر المزاج لتصرفات زوجته التي كان ينتقدها فيها، ويعارضها في فعلها، ولاحظ الزوج أنها بدأت تفلت من يديه، فيما هي كانت ربما ترى فيه سجانا أنانيا، واشترت سيارة ثم ثانية، وكان يسألها من أين لك بكل ذلك المال؟ فكانت تجيبه بردود ظل يشك فيها، غير مقتنع ولا مطمئن لها. وفي يوم هادئ ولطيف بادرته الزوجة بفكرة السفر إلى تركيا، رد عليها أن ذلك مستحيل، ولكن إن رغبت فسيكون لها ما أرادت بعد شهر رمضان، لكنها “ركبت” رأسها ولم تنتظره وسافرت وهو الغضبان، وتركت الولدين لدى شقيقتها ترعاهما في غيبتها.. لم يكن الزوج بالراض عن تصرف زوجته، وبدأت الوساوس تراوده، وكان في قمة غضبه، وانتظر عودتها. وفي المطار، وحينما حطت الطائرة، ذاب كل غضبه واستقبلها، وتصالحا، وعاد وإياها، بل أكثر من ذلك اشترى لها هدية حتى ترضى، وعادت السعادة إلى قلبيهما لا يفترقان، لكنها لم تعد كالأيام الحلوة الأولى.
المشهد الثالث.. عودة الخلافات
كان الجميع من حول الزوجين يعتقد أن المياه عادت إلى مجاريها، لكن الحقيقة أن ذلك كان مثل السراب، يتراءى للبعيد فقط على أن الزوجين سعيدين، ويحدث أن ينشب خلاف، تشاحن فيه الاثنان، وغضبا من بعضهما أياما فقط قبل تاريخ المأساة، قامت وقتها الزوجة الضحية بحمل أغراضها وما احتاجت إليه من مسكنهما المؤجر وغادرت.. لم يتمالك فعلتها وجنّ جنونه، ولم يفهم أصدقاؤهم ما الذي يحدث، وتهاتفا وأخبرت الزوجة بأنه تريد الخلع منه، وأعلمته بأنها سترفع ضده قضية في الـ10 من شهر جوان، أي 3 أيام فقط قبل تاريخ الجريمة، ولكن يحدث أن يتفاهما مرة أخرى وتشترط الضحية على زوجها أن يشتري لها سكنا، يسجّل في اسمها حتى تعود مع شروط أخرى، وتوافقا على الطلب وكان لها ما أرادت، واتفقا أيضا على أن يمثّلا دور الزوجين الغاضبين أمام الأهل.
المشهد الرابع.. الجريمة
حل اليوم السابع من شهر جوان، ارتفعت الشمس في السماء وأطلقت حرارتها تلفح الناس، رن الهاتف، فكان المتصل الضحية.. أجاب الزوج على اتصالها على مضض، وأعلمته بأنها ستعود في ذلك المساء، لم يمانع وطلب جلب أغراضها والأثاث وولديهما. ولما خيّم الظلام دق جرس الباب، وفتح لها الباب وسلم عليها، لكن ما هي إلا ثوان حتى عادا إلى الشجار والصدام، فتلاسنا، وتطور الخلاف بينهما، ثم سكنا، وهدأت العاصفة، وسهرا معا. وهما على تلك الحال سألها عن أشخاص كانت تلتقي بهم، وكانت النقطة التي أعادت الخلاف والشجار بينهما، وحدث أن وجّه لها لكمة، ليتطور الأمر بينهما ولم يعد أي منهما يسمع الآخر، لترد عليه بضربة على الرأس. هنا أصيب بحالة هستيرية، وحمل منديلها ولفّه حول عنقها، وما هي إلا ثوان حتى سكنت.. لا تتحرك.. ولا تتنفس، وانتهى كل شيء مبدئيا، فيما هو أغمي عليه وظل نائما إلى جانبها.
المشهد الخامس.. بداية المحاكمة
تقول الوقائع حسب الملف القضائي إن الزوج الجاني خرج بعد ذلك الشجار، وربما لم يكن يدري أن زوجته قد رحلت، واكتشف الجيران أمر الوفاة وأبلغوا الأمن عن الجريمة، وبدأت التحقيقات للقبض على الجاني الذي اختفى، لكن المحققين وصلوا إلى فك خيوط الجريمة وتم إحضار الزوج الجاني، وبدأت محاكمته في مشهد لم يكن يتمناه كل من حضر جلسة المرافعات وسمع اعترافات وأجوبة الزوج الجاني، بأنه فعل ذلك تحت مفعول مخدر كحولي، ولم يكن يعي ما يفعله، ثم إن الزوجة الضحية مارست عليه ضغطا لم يستطع مقاومته كما لم يستطع الصبر على ما اعتبره “أذية له”، إلى درجة أنه اعترف بأنها لم تكن تحترمه. 
واتضح خلال المرافعات بأن 16 قضية وقعت ضد عائلتها وتم عرضها كلها أمام العدالة، تلخصت في مجملها عدم التعرض لزوجته وفي حياتها الشخصية والعائلية، وظل يجيب والقاضي يسأله، والمحلفون والحضور يستمعون إلى أن قال القاضي في واحدة من تدخلاته “هذا سيناريو فيلم سينمائي، وليست جريمة قتل”.
المشهد السادس.. الدفاع يقيم الحجة
جاء دور الدفاع، وأخذت محامية الجاني الأستاذة فليفتي هاجر الكلمة، وبدأت في المرافعات، وقالت بأن موكلها لم تكن لديه نية إجرامية، وأن جريمة القتل لم تكن مدبرة، واستدلت بشهادات صديقات الضحية، واللائي اعترفن بأن الزوج المتهم كان يعشق زوجته بجنون وأنه هددها بالقتل والانتحار، لتضيف بأن فعل الترصد والإصرار غير وارد، لأن الزوجة هي من أرادت الرجوع، وحاول الزوجان العودة إلى حياة الاستقرار، وحتى شهادة أهل من الضحية كانت لفائدة الجاني، حينما اعترف بعضهم بأن الخلافات التي كانت تقع بينهما تذوب في الختام ويعود الحال إلى طبيعته. ثم زادت المحامية بالتأكيد على أن الزوج كان يحاول دائما تسوية الخلافات بينهما، وأن الزوج المتهم كان بالإمكان أن يصاب في عقله، إن هي تركته وانفصلت عنه. كما بينت المحامية أن الفاعل لو كانت لديه نوايا سيئة لقام بالتخلص من جثة الضحية، وطمس معالم الجريمة، وأن الدافع في الجريمة هو تأثير الكحول على تصرفاته.
المشهد السابع.. النطق بالحكم
ممثل الحق العام أو النيابة رافع بأن الجاني كان يقصد إزهاق روح زوجته، وأن الوقائع التي كانت بينهما تؤكد نواياه السيئة، وكل الدلائل حسبه تأتي ضده، وهو يستحق عقوبة الإعدام جزاء لفعله وجريمته، لينطق قاضي هيئة المحاكمة في هدوء وتركيز، ويعترف مرة أخرى في معان، وكأنه أمام وقائع فيلم أو تراجيديا مبكية، وأن دافع القتل كان بفعل “العشق والحب الشديد”، حتى إن واحدة من المحلفين دمعت عيناها وهي تسمع كلام الزوج النادم، ليتقرر في الأخير وبعد التداول في الوقائع والحجج المقدمة من كل الأطراف والشهود، أن الحكم هو عقوبة السجن النافذ لمدة 7 سنوات، ورفعت الجلسة في هدوء والكل مشدوه ومدهوش لما كان يدور في قاعة المحاكمة.
النهاية..
بعد أن أطلق القاضي رصاصة رحمة على المتهم الزوج وإدانته بسبع سنوات، وكان البعض يفرح والبعض الآخر يتأسى للطف الحكم عليه كل تلك السنوات القليلة، كان الزوج يعيش لحظات وحده.. حزن علا على محياه وهو لا يزال شابا في عقده الثالث، وأطلق زفرات ترجمتها كلمات الندم والغفلة وذهاب العقل، وما يفعله الإنسان في نفسه وبغيره، حينما تذهب الأسس وقواعد الأخلاق، وقال للقاضي اللطيف والناس يسمعون ويفهمون لغته ومعاني كلامه “حتى وإن قضيت وحكمت عليّ بالبراءة ومنحتني الحرية ولم تعاقبني بالحبس، فلن أسعد بحريتي لأنني سأظل أحيا سجينا بعد خسارتي لزوجتي..”. سكت الجميع وانتهى المشهد المحزن وانصرف الكل إلى حاله يحدث نفسه ويتمتم..
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *